في وداعية دوستويفسكي


التاسع من فبراير عام 1881، الساعة الرابعة أو الخامسة مساءً.. لا أتذكر تماماً.. فقط أتذكر حروف "تورغنيف" وهي تشرح، كيف تكالبت عقارب الساعة معاً وقررت أن تتجمع بصف واحد؛ لتُعلن بدمٍ بارد موت عرّاب الأدب الأول.. لا بل الأدب ذاته، وتفتح تاريخ جديد يؤرخ الأدب العالمي "لِمَّ قبل الفاجعة وما بعدها".. وهكذا تنشدُ الحياة استخفافها بنا وبقيمنا!


دستويفسكي العلامة الفارقة بتاريخ الأدب، والهرم الخالد.. اليوم يُصادف ذكرى وفاته المئة والثامنة والثلاثون، وككل مرة، كأنها عزاء الأمس!


يقول الناقد "بيلنسكي": "سيأتي على روسيا روائيون كثيرون، وستنسى روسيا معظمهم. أما أنت فلن تنساك روسيا أبداً، لأنك روائي عظيم. المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تحب الآلهة وحيه وسكان السقوف والأقبية. وتقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة. هؤلاء بشر أيضا، هؤلاء إخوانكم".


ولو عُدنا لِمَّ قبل عامه الأخير نتذكر أشهر محادثة لتورغينيف وتولستوي إزاء دستوفيسكي على خضم المهرجان. إذ كانت روسيا مُقبلة على تكريم أعظم شُعرائها قط "ألكسندر بوشكين" (الذي لا يمر ذكراه، إلا وأشار إليه دستويفسكي بإستاذه!). حيثُ سيحضر هذا المهرجان كِبار شعراء ومُثقفيّ وصفوة روسيا، ومنهم عمالقة "كتورغينيف، وتولستوي، ودستويفسكي". فجاء على الأثر؛ أن قدُم تورغينيف إلى تولتسوي لإقناعه بحضور هذا المهرجان. فسأل تولستوي تورغينيف: هل سيحضر دستويفسكي؟ فأجابه: أعتقد ذلك.

فقال له: لن أحضر. فسأله: تورغينيف لماذا؟ فأجاب تولستوي: لأنه سيسيطر على الجو ويتحول الحفل من تكريم "لبوشكين" إلى تكريس ل"دستويفسكي"!

ومن هُنا نعرف مكانة الرجل السامية والمرموقة..


وددتُ لو أكتب كل ما يجول بخاطري عن الرجل؛ لكن لا الوقت يُعينُني ولا المساحة اللغوية كافية لتعطيه حقّهُ!


ذلك الشح في المعنى والهشاشة في التعبير لديّ، أمام الثروة الجمالية والدلائلية التي لا تنضب في روايته.. دفعني لإنتقاء أهم ما كان يغزو خاطره عند الكتابة ويفوح في أعماله، والحقيقة لم أجد أفضل من "سوسلوفا" المرأة الحُلم، أو الغاوية الخائنة كما يُحب تسميته.


ألتقى بطلُنا "فيدور دوستويفسكي" الشابة سوسلوفا في إحدى صالونات القراءة العامة، وحينها كان في 42 ( أي يكبرها بعقدين). كانت اليافعة آنذاك جذابة وذات سحر خاص، لا يلتمسه إلا ذا ذائقة.. إلا ذو حظاً عظيم!

إذ يُذكر أنها شاركتهُ الذوق الأدبي والشغف الحسّي، وتعاطى معاها فوق مقدروه، ومع ذلك لم يسطع عاشقُنا أن يقدم لها كل ماتريده، أو بُلغة أخرى.. أن يُجاري شبق عُمرها!

نعم، لقد كان صاحبُ الفقراء في تلك الأثناء متزوجاً، وكانت بمثابة ملجأه متى ما أراد الإستقرار، فيما مغامرته العاطفية أحتفظَ بها سراً لنفسه.

وما كان هذا الاحتفاظ أن يشفع له أمامها أو أن يبقي قلبها على إخلاص، فصالت وجالت الجميلة، حتى أتخذت رجالاً آخرين عشاقاً ولعوبين.

لم يصبر عملاق روسيا على الهجر الذي طال أمد العامين، ففكر حينها في العودة.. وحقاً عاد، حاملاً آمال الشوق ومطلب الزواج تحت أبطه، فكانت المفاجأة، عفواً الصدمة!

قابل دستوفيسكي حبيبته وما هي حبيبته! لقد جاء ولم يكُن في باله أنه سيُقابل مرأة خاوية الخبرة، ذابلة الأنوثة، عليلة الجسد، هزت جميع طموحاته بالمرأة الحُلم. لم يُشكل ذلك وأكثر بالنسبة لبطلُنا أيّة مشكلة أو بمعنى آخر، وقف عائق أمام حبه ومطلبه بالزواج منها، والتي بادلته وقتها بالرفض القاطع! "كيف ترفضني وهي بهذا الحال!" هكذا ظل يُردد فيودور، وهو غارقاً في صدمة التوقعات وخيب القدر.

لم تنفك تلك الحادثة، إلا وأن غدت أشبه بأعظم نكسة ومأساة وقعت لأديب روسيا، ولا نبالغ أن قُلنا أن سوسلوفا هي المرأة التي سببت الأذى الأكبر والألم الأعمق لفيودور ميخايلوفيتش.


وفيما أوردَ "سلونيم" على ذات السياق: "كان دستوفيسكي يجفل عندما يتم ذكرُ إسمها، لقد كان على علاقة معها وقتما كان متزوجاً. لقد جسدها مرات عديدة في رواياته، حتى مماته بقيَّ مُتذكراً مُداعبتها وصفعاتها له على وجه الشاحب، لقد كان يذكُرها كنسمة تُطهر تُحيّ وجهة وتطهره من روث الحياة. وذلك ما كوّنَ الإخلاص لديّه، لدى حباً أذاقهُ القسوة والدلال واللوعة والإذى في آن".


هذا الحب الشغوف والنهاية المأسوية، لم يشأ كاتبنا وأن يدعها تتحول لمحض ماضي، أو تُقضى دون أثر. لقد شاء أن يُخلدها في أعماله.. والتي نلتمسها في #الضحية_دونيا في "الجريمة والعقاب"، و#اليائسة_والعاطفية_ناستاسيا_فليبوفنا لدى "الأبله "، و#المغرورة_والعصبية_ليزا في "الشياطين" . بدون أن ننسى أهمهم #بولينا بطلة "المقامر"، التي تُجسد كأعظم تجلي لسوسلوفا روحاً وطباعاً!

مُصادِقة على مقولة: عندما تترك امرأة رجلاً، تُضيف لهذا العالم فنان أو قديس. أما القوادون فيرثيون البكاء والعويلاً!










 

تعليقات

المشاركات الشائعة