بيرتي الخليع

بيرتي الخليع 

 

– لم يتوقف راسل عن إغواء زيجات أصدقاءه ومضيّفيه بل ذهب مراوداً زوجة أبنه جون عن نفسها. 

 بعيداً عن الجانب الفكري للرجل ونتاجه المعرفي القيّم.. كانت الصدمة! 

بيرتراند راسل أو "بيرتي القذر" كما عُرف عنه، لم يتأنى في الحفاظ عن سمعته المشبوهة كزير نساء عوضاً عن تصريحاته السياسية المتناقضة مع مدعاة السلام والإنسانية التي أعتاد التلويح بها، ففي مقدمة كتاب "جنون الفلاسفة" ذكرا الكاتبين أن بعد إتمام راسل مبدأه العظيم الرياضيات بمشاركة صديقه "ألفرد وايت هيد" عام 1913، شعر راسل بأنه مخول رسمياً للحديث عن أصغر المشاكل الإنسانية، وخاصةً الزواج وإنجاب الأطفال والعلاقات الجنسية. كتب راسل بغزارة – بمعدل 2000 كلمة يومياً – واضعاً القانون كما يفسره الإنسان المتطور في أوائل القرن العشرين. لكن حياته الزوجية الخاصة لم تكُن مثالية أبداً. فبعد ثلاث حالات طلاق قاسية، كانت كفيلة أن تترك قلوباً منكسرة وعائلات مفككة أثرت على أغلب أحفاده بشكل كارثي جداً، لدرجة جعلت حياتهم مدمرة بالمعنى الحرفي. لقد أكسبته مغازلاته المبالغة لقب "الخليع الفلسفي/بيرتي القذر". وحتى وجهات نظره السياسية كانت بالنسبة لما يدعيه شاذة تماماً. إذ عُرفَ عنه قيادته للحملات المناهضة للقنابل الذرية، وبفترة مبكرة جداً كمعارض متحمّس للحرب العالمية الأولى. لكن مالم يعرفه الكثيرون أنه كان محّرضاً على الحرب النووية الاستباقية ضد الاتحاد السوفياتي في منتصف الأربعينات، حيثُ صرح قائلاً : "عليّ من جهتي أن أفضّل كل الفوضى والدمار الناتج عن حرب وسائلها القنابل الذرية، بغية أن لا تهيمن على الكون حكومة لديها الخصائص الشيطانية للنازية. في وقتاً لم يمتلك فيه الاتحاد السوفياتي أي قنابل نووية!"

حينما ذهب راسل لأمريكا الشمالية يُلقي جولة من محاضراته.. حدث أن إحدى الفتيات في القاعة سألته عن سبب تركه للفلسفة بشكل رسمي؛ فأجابها ببداهة: "لأنني وجدت ممارسة الجنس أفضل من الفلسفة. "ضحكت الفتاة، غير أنها لم تعي حقاً ذلك الولع الجنسي المكنون في اجابته، والذي تجسد بمغامراته الجنسية طيلة ثماني عقود.. فأربع حالات زواج والكم الهائل من العشيقات لم تكُن كافية لإشباع شبقه الجنسي بينما في المقابل كانت كافية لهدم سمعة "إيرل" العريقة – عائلته، وإنهاء حياته وسط حالات من النزاع العائلي وتراشق التهم أخصها؛ لا اخلاقيته وافلاسه المُشين. 

أما على ذكر أمريكا، فلم يمنعه كره للبلد من وضع بصمته البائسة على ابنة مُضيفه..           

هيلين دودلي، ذات الثامنة والعشرين عاماً أو على الأقل ضحية راسل القادمة، هذه الأخيرة كانت قد وقعت سلفاً بغرام الفيلسوف الإنجليزي، فيما لا تعلم أن غراماُ كهذا سيكلفها الكثير من الحُطام لاحقاً. "قُبيل عودة راسل لموطنه وبعدما خاض معها صولات حميمية، دعاها للحاق به عبر المحيط الأطلسي – حيثُ كان من الصعب وبالغ التكلفة عبور المحيط آنذاك – وصلت هيلين إلى لندن وقتما كان يُحاول إعادة علاقته مع أوتولاين – حبه الأكبر "وأن كان من جانب واحد". فُجئت هيلين بما رأته، ووجدت نفسها مُجبرة على تقبل منافستها الأخرى بعد زوجته "أليس". رغم ذلك، استمرت هيلين بالنوم مع راسل، فإضافةً إلى حبها له كانت تحتاج لمن يعيلها.. وربما كان دافعها الثاني من يزودها بالصبر أكثر، خصوصاً بعد معرفتها أن الرجل الذي ضحت لأجله كان يتنكر منها بحضرة أوتولاين. فيذكر راسل؛ أن هيلين كانت تأتي وتطرق باب شقته في بلومزبيري، بينما يكون هو وأوتولاين في الداخل. وكان قدومها وطرقها المستفز يُعكر مزاجه.. حتى قرر في احدى المرات فتح الباب لها، وهو حاملاً لها كوب ماء، لكنه لم يدعها تدخل أبداً. عادت هيلين أدراجها للبيت، وفي النهاية رحلت عائدة لأمريكا محملة بالمآسي والأحزان التي تحولت إلى انهيار عصبي عانت منه لفترة حتى تطور إلى حالة جنون. وقد كتب رسل بإيجاز في سيرته الذاتية "لقد حطمتُ قلبها". لكن مالم تعلمه هيلين أنهم لم تكُن الضحية الأول ولا الأخيرة في سجلات بيرتي العاطفية. فلو أنها عرفت مدى الألم الذي زرعه راسل بصدر زوجته الأولى "أليس" – التي سرعان ما بدلها بعشيقته وزوجة صديقه "إيفلين" – لكانَ خفف من معاناتها النفسية، أما بالنسبة للأخيرة ما أنّ تعّرف بيرتي عليها حتى صار كارهاً من رفقة زوجته بشكل كليّ.. متجنبها بقدر المُستطاع، فيُذكر انه عانى كثيراً من الإمتناع عن الجنس في ذلك الوقت بسبب نفوره من أليس ولولا عمله في تلك الفترة لأقدمَ على الانتحار.. يُكمل راسل قائلاً: "لم أكُن لوحدي تعيس حينها، أليس كانت أيضاً تعيسة وربما أكثر، كانت تتوق إلى الموت، خصوصاً عندما اكتشفت أن الألم الموجود بصدرها لم يكُن ورماً سرطانياً، بل كان ألم وجودي البارد بحياتها. في اليوم التالي، عادت من علاج يُفرض عليها أنّ ترتاح، وكان السؤال المباشر والإجابة عنه يُفيد بأن الحب قد مات وما بقيّ ليسَ إلا عذاب، ذهبت إلى غرفة النوم بينما كنتُ في مكتبي.. ولم أتمكن من تجاهل صوت نشيجها الصاخب الذي يدويّ أرجاء المنزل، كانت تنتحب كالأطفال وحتى هذا لم يحركني لها.. أوه، يا للشفقة.. كيف تصلب قلبي وقتها وتركتها تبكي!". 

حمل عام 1915 خروج راسل من السجن مستقبلاً حياته من جديد كما تركتها، مليئة بالفوضى والسقطات الأخلاقية.. لكن من جانب آخر كانت سنة الخطيئة والدمار عندما يتعلق الأمر بـ "فيفيان إليوت" زوجة الشاعر إليوت، حين فكرت بمقابلة إغواء راسل لها بالتسامح والانجرار. فعلى الرغم من حداثة زواجها من الشاعر، إلا أن المشاكل الزوجية العالقة بينهما مؤخراً وإفلاس إليوت المادي، تركها تُقابل راسل بالاستحسان وبالأخص عند مساعدته لهما مادياً. وكما جرت العادة وستجري.. نام الفيلسوف مع فيفيان التي تركها إليوت فيما بعد بغير مبالاة بحضانة صديقه، تاركاً لهما بيته بأكمله. وبحسب أقوال أوتولاين: "أشترى راسل لفيفيان ملابس داخلية حريرية، وأشياء كثيرة مثيرة ومسلية". كانت فيفيان جذابة بشكل كبير حيثُ وصفها  "ألدوس هاكسلي" مُنبهراً : "هي الاستفزاز بعينه". لكنها لم تكُن مستقرة عاطفياً، إن لم يكُن عقلياً. هذا التبلد العقلي دفع راسل لهجرانها وقطع علاقته بها نهائياً كونه تعب منها ومن هشاشة عقلها الذي تطور بسبب رحيله عنها لاحقاً إلى جنون. لقد أمضت فيفيان سنواتها الثماني عشرة الأخيرة مرمية بشكل إلزامي في المصحة.. يأكل منها الإهمال كل يوم.

لكن ماذا عن جون وكيت! 

هذان الطفلان كانَ فيصلاً في علاقتي مع أباهما. ولدا جون قبل أخته الجميلة كيت، وكانَ قد أنعشا حياة راسل ودورا – زوجته الثانية – بالبهجة والسرور من جدي، لكن مثل هذه المشاعر لم تعرف طريق الاستمرارية في حياة راسل إطلاقاً. فعند ولادة جون بدى راسل أكثر اهتماماً في ناحية التربية الاجتماعية وأسال الكثير من الحبر بهذا الجانب. لكن من غير فائدة على أرض الواقع تُذكر، كيف لا.. ومرهقاته الجنسية والخلاعية لازالت تلهيه وترمي بمساوئها وأضرارها على حياته العملية والشخصية في آن. فبعد طرده من تدريس الفلسفة بسبب كتابه "الزواج والأخلاق" الموسوم بالا أخلاقي أصبح مفلساً بشكل رسمي وانعكس ذلك الاساء على عائلته في ظل وجود عشيقه "بيتر".. هذا الاساء والاضطراب الذاتي جعل ولديه بدل أن يكبران مثل أي طفلين سعيدين، أصبحا مراهقين مختلين الشخصية. فعانى جون من مشكلة هويته المثليّة، وحاول أنّ يكشف لعائلته الأمر بطريقة غير مباشرة عبر "لوح ويجا" عندما كتب عليه في أحدى الليالي "أنا مثليّ". لكن قابل راسل ذلك باللامبالاة وتناوله على أنه مزحة من طفله المخيب للظنون. وهذا يعود لتبنيه الفكرة القائلة أن المثلية هي نتيجة للتربية السيئة الذي يتلقاها الطفل من أبويه، وطالما يرى أنهُ لم يخطئ في تربية بِكّره، فمن المستحيل أن يكون مثلياً البتة، وهذا ما دعا كيت تكتب لاحقاً "كان والدي رجلاً طيباً، مع أن طرقه في التربية تبدو مليئة بالاعتداءات الوحشية على العقل الطفولي". كبرا جون بضع سنين لكن ما زال يعاني من اضطرابه الشخصي الذي لم يتوافق مع إمكانية مساعدة أباه له بدافع أن الأخير أعاقت كراهيته لزوجته وأم جون – دورا – أي سبيل لتقنين تنامي المشكلة لأبنه. وهذا ما دفع جون للتصرف مع اختلاله من خلال زواجه المُبكر من "سوزان ليندسي" التي تكبره كثيراً بالعمر، ظاناً بذلك تغلبه على مثليته الذي كبرت مع انشغال والديه بكره بعضهما البعض، وسرعان ما أمتلك أبنتان إضافة إلى طفلة سوزان. تعقدت حياة جون أكثر فأكثر، فإندفاع بالزواج من امرأة مطلقة وعدم توفيره لقمة العيش والصراع النفساني الحاصل بداخله انتهاءً بإغواء والده الثمانينيّ لزوجته التي انتهت بالتخلي عنه لصالح الكاتب "كريستوفر وورد سوارس".. كل هذه الصدمات المتوالية أفضت إلى أنّ يصبح جون مجنوناً تماماً أواخر عام 1954. أما من جانب راسل فبادل جنون ولده بالخوف من توارث الجنون لأبنائه ونسله ولم يُحرك ساكناً لوضع جون، حيثّ ترك أمر محاولة إنقاذه لدورا المفلسة كلياً عندئذاً. لقد أراد راسل وثيقة اثبات رسمية لجنون ولده، كي تُتاح الفرصة إليه لحجزه في المصحة ضد رغبة الأبن، لكنه لم ينجح وبقي جون بدون شهادة إثبات مُكملاً حياته بغير استقرار كما بدأها. وكان عذر راسل بتركه أنهُ خيب ظنه في أنّ يحمل نصف ذكاء أباه. هكذا تموضعت نظرة راسل للآخرين كمشاريع أدبية وعقلية، نراها متجلية بسطوع في رسائله المتعالية على عشيقاته – "أليس" على وجه التحديد –، وعلى أية حال رغم كتابته لسيرته الذاتية إلا أنهُ ندر أنّ صُدر منه اعتذار عن الأوجاع التي تسبب بها وخلف أذاها عموماً. 

انتهت حياة راسل بسلام في الثاني من شباط عام 1970. بينما التعاسة التي خلفها لم تعرف الانتهاء. حيثُ كتبَ أحدهم ذات مرة: "هذا ما تركه راسل؛ زوجتين تشعران بالمرارة، وابناً مصاباً بالفصام، لم يعد إلى حالته العقلية السليمة أبداً، وحفيدته سارة المُصابة بالفصام ايضاً، والأخرى لوسي التي كانت تُبشر بالخير لبعض الوقت وأحبت جدها لفترة طويلة. لكن في دراتينغتون أصيبت لوسي بمشاكل عاطفية وفشلت في جميع امتحاناتها، ذلك أنها درست الرياضيات رغم مواهبها الأدبية إضافةً للانقسامات العائلية. هكذا إلى أنّ فقدت موّدة جدها بشكل كامل بسبب وقوعها في غرام شاب مغربي يُعرف بسرقته للكُتب، كما أنهُ قطع اتصاله بها بشكل كامل في سنة 1966، وأوقف دعمهُ لها. أصبحت لوسي مُشرّدة تماماً، ومرفوضة من باقي أعضاء عائلتها قبل وصولها لسن الثامنة عشر، حتى انتهى تشردها وتخبطها بحادثة انتحار مُرّوعة هزت عائلة "إيرل" بإحدى مستشفيات الأمراض العقلية. إذ أحرقت نفسها في مقبرة كورنيش.

أعترف راسل في سيرته الذاتية عن كونه مُطارداً من قِبل مخاوف وأفكار تجوب " لاوعيه "، فدوّن صارخاً: "النوع نفسه من الخوف، سبب لي ولسنوات عديدة، تجنّب كل العواطف العميقة قدر استطاعتي، وجعلني أعيش حياة الفكر التي تحتوي الكثير من التهكم".

تحسرت كيت لكونّ والدها لم يطلع أكثر على فرويد، مُعتقدة أن هذا الأخير يُمثل طوق نجاة والدها في البحث ومواجه خبايا لاوعيه.. الشيء الذي كان أكثر غروراً أو ربما خوفاً من أن يُجربه. لكن من جهتي كان ما كتبه لورانس – صديقه – لسان حسرتي وذهولي. ذلك أنّ غيرتي على راسل لم تكُن لتكفي لأعارضه. إذ كتبَ: "أنت ببساطة مليء بالرغبات المكبوتة الهمجيّة والمعادية للمجتمع. وتبرز هذه الرغبات بزيّ الحمل الوديع عبر دعاية لمعاداة الحرب. وكما قالت لي إحدى النساء التي حضرت أحد لقاءاتك: بدا الأمر لي غريباً! غريباً جداً، بوجهه الذي يبدو شيطانياً وهو يتحدث عن السلام وعن الحّب، لا يمكن أن يكون قد عنا فعلاً ما قاله. لن أكمل يا راسل، أنت مليء جداً بالعواطف الشيطانية المكبوتة ولا يمكن أن تكون إلا شخصاً شبقاً وقاسياً". 

هكذا عُرفت حياة الرجل، مُستعر بالطيش والجنون. وسأصدقكم لو قلتُ، كم آلمني هذا الشيء وتركني بين متعاطفاً ومخذول من رجلاً جعلتُ صورته صدر مكتبي، مغطياً بغيلونه من يلزمني الآن الاعتذار لهم، " نيتشه، القصيبي، البردوني، غوركي، كانط، فولتير، طرابيشي، لوبون.." أنا آسف.. حقاً آسف، لكن فتى مثلي لا يعرف كيف يحترم رجالاً كراسل، لا يعرف أن يحتمل عاراً كهذا أو يتغاضى عن تلك المآسي، ومهما كان ميزان الرجل المعرفي، لكني أكتب وقد رميتُ عقلي بعيداً.. لا مكان للمنطق الآن، فالمنطق لا يُزيل الألم لا يُعافي الجراح ولا يُرمم ما تحطم، هذا هو المنطق. وهكذا كما تعلمون أكون سجين عاطفتي، التي تتعذب لمعاناة أي شخص أي كائن. غير أن هذه المرة احترقت كما احترقت لوسي في المقبرة، وككل مرة الجاني واحد.. واحداً لا غير، وهذا عزائي!




تعليقات

المشاركات الشائعة